ابن الطين الأصيل

موضوع: ابن الطين الأصيل الأحد مايو 27, 2007 3:57 pm

ابن الطين الأصيل

شحته فلاح مصري أصيل من احدي قري مصر العامرة بالفلاحين البسطاء من أمثالة حصل علي دبلوم الزراعة ثم تفرغ للعمل في غيط أبوه ليساعده في زراعة 5 قراريط من الأرض الزراعية هي كل أملاكهم بالإضافة لعدد قليل من المواشي.

لم يتأثر شحته كثيرا بالتغيرات الكبيرة السيئة التي طرأت علي معظم الفلاحين الآن مثل إهمال الزراعة والسهر أمام التليفزيون والاستيقاظ المتأخر والجلوس علي النت والكمبيوتر بالساعات و.... و...... الكثير من السلبيات التي حلت بالفلاح المصري المعروف منذ الآلاف السنين حتى سبقنا الكل في الزراعة وأصبحنا في ذيل القائمة كالعادة.

فكان يستيقظ مبكرا في السادسة صباحا يصلي الصبح ثم يتناول إفطاره البسيط من العيش المخبوز في فرنهم وبعض الجبن القريش والعسل ثم يتوجه إلي الغيط ليري ما سيفعله اليوم..... اليوم مثلا سوف يقوم بحش البرسيم عدد معين من المرات ويترك جزء للمواشي ويبيع الباقي ويوم آخر للري ويوم آخر لزراعة البطاطس أو الجزر وهكذا...... والد شحته كان فرحان أن ربنا هادي ابنه ولا يفعل مثل زملاؤه الأوغاد الآخرين الذين يدخنون ويشربون البانجو وما إلي ذلك من الأنشطة المعتادة للشباب....... والسبب الرئيسي في ذلك أن شحته كان يشعر بالمسؤولية منذ صغره فهو الأخ الكبير وله خمس اخوه آخرين منهم ثلاثة من البنات وأبوه رجل رقيق الحال فعل كل ما بوسعه لينفق عليهم لذلك فهو سيكون علي قدر المسؤولية.

أبو شحته كان معتاد علي بيع محصول الأرض ثم بجزء كبير ينفق علي أولاده وجزء اخر يدخره لشراء التقاوي والأسمدة اللازمة للزراعة فكان أحيانا يقترض مبلغ من البنك الزراعي بضمان الأرض ليشتري حاجته للزراعة...... البلهارسيا هي لعنة الفلاح المصري منذ أيام الفراعنة وأبو شحته كان من الجيل القديم الذي لم يعالج من البلهارسيا لذلك فان مرضه وإصابته بالفشل الكلوي كانت نتيجة طبيعية ومن ثم حدوث الوفاة...... في هذا اليوم كان أبو شحته راقد في مستشفي القرية ومعه زوجته واثنين من أبناءه وشحته منهمك في الأرض حتى جاء أخوه الأصغر ليعلن النبأ الفاجع

أحس شحته أن ساقيه لا تحملانه وأنه علي وشك السقوط مغشيا عليه لا يصدق أنه سيدخل البيت ليجد أبيه غير موجود علي الكنبة التي تقع في صحن الدار كعادته ليسأله عن أحوال الغيط لا يصدق أنهم سيحملونه إلي قبور قريتهم ليدفن هناك ولا يراه أبدا..... إن شحته هو من أواخر السلالات البشرية التي كانت تعيش في مصر في عصور سابقة والذي كان يشغل بالهم هو إرضاء والديه أولا ثم مساعدة أخواته البنات حتى يتزوجوا ومساعدة إخوانه الذكور أيضا

شحته ينتمي إلي هذا النوع من الرجال الذي يفكر في أسرته أولا ثم في نفسه.... هذا النوع من الرجال الذي كان يتنازل لإخوته عن نصيبه في ورث أبيه ويتركهم يعلو أدوار منزل أبيهم ليتزوجو فيه بينما يبدأ هو حياته في مكان آخر.... هذا النوع من الرجال يتحمل مشاكل إخوانه ومصائبهم علي ظهره وفي نفس الوقت يتحمل مشاكل بيته وحياته الشخصية..... كان شحته باختصار هو أسطورة الأخ الكبير الذي يحل محل الأب... هذا النوع من الشخصيات التي هي علي وشك الانقراض.
تمالك شحته نفسه بصعوبة بعد أن سمع الخبر وهو يقاوم دموعه ثم اتجه في صمت مع أخيه ليستلم جثة أبيه ويستعد لمراسم الدفن

هاهم يحملون نعش أبيه إنها المرة الأخيرة لن يراه مره أخري..... استند برأسه علي حائط بيتهم وهو يقاوم رغبته الشديدة في البكاء..... يجب عليه أن يحمل النعش مع الآخرين وإلا سوف يلومه أبناء قريته.... أمر أمه وإخوته البنات في صرامة بعدم الصياح أو النواح علي أبيه فهو من النوع المتدين الذي يعرف جيدا أنها من عادات الجاهلية القبيحة...... هاهم يضعوا الجثة في القبر ثم يصطف مع بعض من أقرباءه ليسلم علي الناس..... مر عليه كل هذا وهو كالمخدر لا يشعر بشيء..... دخل الدار مطرقا في صمت ثم جلس في نفس المكان الذي كان يجلس فيه أبيه......
مرت عدة أيام حتى خف عدد المعزين تدريجيا ثم جلس مع أمه ليتحدثا سويا في أحوال معيشتهم

اكتشف شحته أن أبوه قد اقترض مبلغ كبير نسبيا بالإضافة إلي تراكم بعض فوائد القروض السابقة من البنك الزراعي وقد استحق وقت السداد فجلس يفكر فيما سيفعل من أجل سداد الديون المستحقة...... كان يجب علي شحته أن يبيع جزء من أملاكهم البسيطة فاضطر إلي بيع قيراطين من الأرض وعدد من المواشي ليسدد القرض..... بعد البيع أصبحت حالتهم المادية صعبة جدا ولو عمل في الأرض ليل نهار لن يحقق شيء مما كان يتمناه

كان يسمع ويري بعض من أبناء قريته الذين سافرو إلي الدول العربية كعمال...... جلس يفكر مع نفسه لماذا لا يسافر كالآخرين إن هذا هو الحل المنطقي الوحيد الذي يخرجهم من دائرة الفقر اللعينة

مر شهرين وشحته يحمل في جيبه ثمن آخر ما تبقي من المواشي في جيبه يلف ويبحث في مكاتب السفريات حتى حصل علي عقد عمل لا بأس به في الكويت...... لا داعي لوصف أنهار الدموع الذي نزلت من عينه وعين إخوانه وأمه عند توديعه للسفر..... كان قد رتب معهم أن أخويه وأمه سوف يعتنون بما تبقي لهم من الأرض وسوف يرسل لهم مبلغ كل شهر ويقوم بادخار الباقي

عندما سافر شحته إلي الكويت ورأي الأبراج العالية المرتفعة التي تشتهر بها دول الخليج انبهر بها مثل باقي زملاءه ولكنه في نفس الوقت لم يشعر نحوها بالارتياح أو الألفة بعكس ما كان يشعر به عندما كان في قريته بأنه يتآلف مع كل شيء حوله..... شحته كان ذكيا فلم يكتفي بأن يكون مجرد عامل شحن في احدي مواني الخليج ولكنه تطور بعد ذلك وأصبح سائق شاحنات ثم سائق لاحدي أوناش التفريغ الكبيرة.... تمر عليه الأيام والشهور والسنوات وهو يكاد يجن من التفكير في أمه وإخوته ولا يصبره إلا خطابات أمه واتصاله بهم من الحين للآخر

ينام كل يوم علي السرير لينسي الطرق الصحراوية التي يمر بها والمباني العالية والمعاملة الخشنة من الكفيل وسفن الشحن التي لا تنتهي ليتذكر الأرض الطينية الخضراء الجميلة وجلوسه ساعة الغروب يشوي عيدان الذرة مع أصدقائه وهو يصب الشاي من علي ارتفاع مترين علي الأقل في الأكواب الصغيرة محدثه صوتا جميلا ومكونه رغوه كثيفة والطاقية علي رأسه مائلة بزاوية 20 درجة في اتجاه عقارب الساعة وجلوسه مع حارس المقابر عم مصيلحي عندما كان طفل يحكي له ولأصدقائه حكايات مرعبة عن أمنا الغولة وأبو رجل مسلوخه وإطعامه للمواشي بالبرسيم واستمتاعه بذلك وهو يراهم يأكلون

مرت ثلاث سنوات استطاع فيها شحته ادخار مبلغ كبير من المال وقد قرر العودة لأن ما سافر من أجله قد نجح فيه...... علي الرغم من مرور ثلاث متواصلة عليه في الغربة بعيدا عن أهله إلا انه لم يتأثر بشيء من عادات من حوله ولا لهجة كلامهم وظل الفلاح الرابض في أعماقه كما هو...... قام شحته بالحجز في احدي العبارات التي تتحرك من احدي مواني السعودية مارة بالبحر الأحمر لتصل إلي احدي المواني المصرية....... كان شحته جالسا في حجرته التي حجزها في العبارة وهو يفكر فيما سيفعل عندما يصل إلي قريته

انه الآن يمتلك مبلغ لا بأس به يمكنه من شراء فدان ونصف من الأرض..... نعم سوف يعيد شراء أرضهم التي باعها من قبل بالإضافة إلي أكثر من فدان من جارهم وساعتها سوف تصل أرضه إلي الترعة مباشرة ليروي منها دون انتظار إذن من جاره لأن أرضهم كانت بعيده عن ترعة الري...... وبجزء آخر سوف يشتري عدد من الماشية..... انه يستطيع في خلال عد قليل من السنين مضاعفة حجم أرضه وتحسين أحوالهم بصورة كبيرة وعندما يصل أخوته البنات إلي سن الزواج سوف يقدر علي تجهيزهم بصورة جيدة والإنفاق علي إخوانه الذكور حتى يتخرجوا من الجامعة

وأهم من كل هذا أمه التي سوف ترتاح من العمل في الغيط وهو يستطيع أيضا أن يوفر لها مبلغ من المال لتحج كما كانت أمنيتها دائما..... وفي النهاية سوف يحقق الحلم الأزلي عند كل مصري وهو شراء قطعة أرض وبناء بيت عليها ملكه خاص به وعندها يستطيع أن يتزوج ويبدأ حياته............ . بينما كان شحته غارقا في أحلامه الجميلة شعر بأن هناك حالة من الاضطراب تسود علي العبارة...... كانت الأحداث درامية متسارعة جدا....... العبارة تميل تدريجيا ثم تغرق بكل من عليها........
بعد ثلاثة أيام استلمت أم شحته وأخوته جثة أخيهم شحته وتم دفنه بجوار أبيه في قريتهم

فقد كان واحد من ضحايا العبارة المصرية الغارقة سلام 98.
في تلك الليلة التي دفن فيها شحته كان أحد الغواصين الذين قاموا بانتشال جثته من البحر يقول لزميله: النهاردة كان فيه جثه من الجثث بعد مطلعتها حسيت بحاجة غريبة بس مش عارف أوصفها.... عندما نظر الغواص الي جثة شحته رأي في عينيه نظرة اتهام لن ينساها أبدا..... برغم أنه ليس مسؤلا عن موته إلا أنه شعر لا إراديا بالذنب ونظرة الاتهام لا تفارق عينه أبدا

لا حول ولا قوه الا بالله

جزاك الله اخيى خير الجزاء

ابن الطين الأصيل 212075139746599574740e7

بارك الله فيكى اختى الكريمه